حــــاج واحـــد فقـــط

لصلاح ابوشنب

انتهت أيام التشريق وبدأ حجاج بيت الله الحرام فى التوافد على مدينة جدة للتبضع والتسوق من أسواقها التى امتلئت بكافة أنواع البضائع الواردة من شتى بقاع العالم.
كان الحر شديدا فى صباح هذا اليوم فى مدينة جدة من منتصف سبعينيات القرن الفائت ، عندما بدأ يدير مفتاح غرفة المكتب الذى يعمل به ، بداخل الهيئة الدبلوماسية ، أسرع الى تشغيل جهاز التكييف حتى لتبريد المكان الذى عج بالرطوبة.
صب كوبا من الشاى من الترمس الذى اعتاد أحضاره معه كل صباح بعد أن اصيب بعادة شرب الشاى المنتشرة فى دول الخليج، منطبقا عليه المثل القائل من عاشر القوم أربعين يوماً ، أضاف الى الترمس بعض حبوب المسمار ، وبضعة حبات من الفستق والبندق المنتشر بكثرة فى اسواق جدة ، طريقة ظريفة التقطها من احد معارفه من أهل حضرموت ، تعطى لكوب الشاى مذاقا لذيذا وفريداً، وبالمناسبة المسمار هو القرنقل كما يسميه الاخوة فى الخليج.
تناول الصحف المحلية اليومية التى ترد اليه كى يتصفحها فوجد من بينها المطبوعة الرسمية التى تصدرها وزارة الحج السعودية ، والتى تبين عدد الحجاج القادمين من كل دولة من دول العالم .
كان أهم ما يعنيه فى هذه المطبوعة أمران ، أولهما الاطلاع على عدد الحجاج المصريين الذين أتو لاداء فريضة الحج باعتباره مصرى ، وثانيهما الاطلاع على عدد الحجاج الذين أتو لاداء فريضة الحج من الدولة التى يعمل بهيئتها الدبلوماسية وهى دولة أوروبية.
تملكته الدهشة عندما وجد أن عدد الحجاج هو مجرد حاج واحد فقط ، فطوى المطبوعة حزينا وتابع تصفح الصحف اليومية المحلية لعله يعثر على خبر أو موضوع يتعلق بالعمل فيقوم بترجمته وعرضه.
اقتربت الساعة من العاشرة ففوجىء بمن ينقر على الباب الزجاجى للمكتب ، نظر نحوه ، فوجده شابا جميل ملامح الوجه ، أبيض البشرة تخالطه حمرة ، قد لا يتعدى الخامسة والثلاثين من عمره بحال من الاحوال، كان يرتدى ثوبا أبيض وطاقية شبيكة وفى يمينه بعض الكتب الاسلامية المترجمة.
فى البداية ظن انه من الاخوة الشوام والذين يتميزون بمثل هذه الملامح ، لكنه فوجىء بأنه لا يتحدث العربية ولا حتى الانجليزية وانما يتحدث بلغة بلاده .
رحب به ، وهو يسأله عن حاجته ، فقال أنه أتى لكى يطلب استصدار جواز سفر جديد بسب فقدانه لجوازه، ثم دار بينهما ذلك الحوار:
- أين فقدت جواز سفرك ؟
- فى زحمة الحج .
- وما الذى أدخلك فى زحمة الحجاج ؟
- أنا أسلمت حديثا وكانت أولى رغباتى هو ادآء فريضة الحج فجئت حاجاً لبيت الله .
قال فى نفسه : سبحان الله ، هذا هو الشخص الذى أُشير اليه فى المطبوعة ، ثم التفت اليه وقال : منذ لحظات كنت أفكر فيك ، ولكنى كنت اتخيلك مجرد رقم فقط ، فإذا أبى أراك فى غمضة عين أمام عينى بشحمك ولحمك .. سبحان الله أنا فى علم أم فى حلم ؟ !!!
- أتقول المطبوعة التى تحدثنى عنها بأنه لم يأتى من بلادنا سوى حاج واحد؟
- قلت له : نعم
- قال : إذن فأنا المشار الي بذلك؟
- قلت : نعم .. دون ريب .
- قال : ربما ، ولكنى لا أدرى ، لانى لم اطلع على هذه المطبوعة ولا أعلم بها أساسا .
- ما اسمك ؟
- اسمى محمد المهدى ابو فراس.
- هل هذا اسمك الحقيقى ؟
- لا ، إنه الاسم الجديد الذى اتخذته لنفسى بعد اسلامى .
- وهل لديك ما يثبت هويتك ؟
- نعم ..
أبرز بطاقة هويته ثم تابع قوله :
فى الواقع أنا افتقدت كل حافظتى بما فيها من النقود وجواز السفر وبعض الاوراق المهمة، ولا املك ريالا واحدا ولا أدرى كيف اقتات ولا كيف ادبر تذكرة العودة الى بلادى ، والتى فقدت هى الأخرى.
- احمد الله انك لم تفقد بطاقة هويتك والا لما صدقناك .
- الحمد لله .
- وماذا استطيع أن أقدم لك ؟
قال : اريد أن يساعدنى سعادة السفير باستصدار جواز جديد ومنحى بعض النقود لادبر بها امرى وشراء تذكرة عودة بالطائرة .. سكت برهة ثم قال : ولكنى أشك فى انه سيساعدنى .!!!
- لماذا تقول ذلك ؟
- لاننى منذ أن أسلمت وأنا أُلآقى المتاعب فى كل مكان توجهت اليه.
- لا تيأس ، قد يكون اختبارٌ من الله لقوة ايمانك ومدى ثباتك . فأنت الان فى بؤرة التجربة.
- قال وهو يبتسم : لقد اعتنقت الاسلام عن قناعة تامة وأدعو الله أن يثبتنى.
- حسنا .. اكتب لى طلبا وسوف اقدمه لسعادته.
نظر سعادته الى الطلب وما أن استوعب ما فيه حتى امتعض وبدا عليه الضجر، وتمتم ببعض الكلمات التى تشير الى استياءة من دخوله فى الديانة الجديدة وصرح باستصدار جواز جديد ورفض المساعدة المالية بشدة.
طأطأ الشاب رأسه حَزَنًا على ما يلاقيه بما لا ينم بحال من الاحوال عن ديمقراطية ، كثيرا ما تشدقوا بها علينا ، بينما ألف بائها هى حرية الاعتقاد.
جمعوا ما استطاعوا جمعه من نقود وهى فى مجملها قليلة ولا يمكن أن تعينه بحال من الاحوال على شراء تذكرة عودة بالطائرة ولا حتى بالباخرة ، ولكن بعضهم طمأنه بأنه يمكنه التوجه الى مكتب الطيران التابع للشركة المعنية واستصدار تذكرة بدل فاقد ولكن يتحتم عليه أن يحرر محضرا لدى قسم الشرطة بواقعة الفقد حتى يتسنى له تقديمه الى مكتب الطيران.
تأثر الجميع كثيرا لحال الشاب وتأثر معهم رئيس المكتب وهو مسيحى الديانة ومن نفس جنسية الشاب لكنه كان رجلا يلقى كل احترام لدماثة خلقه وكان هو أول من أخرج من جيبه النقود وقدمها للشاب طالبا منه الا يجعل لما حدث أثرا فى نفسه وحاول إقناعه بأن ما صدر من سعادته إنما مجرد تصرف شخصى يعبر به عن نفسه فقط.
أخذ الشاب مبلغ النقود مطأطأ الرأس خجلا وراح يجر أقدامه جراً دون أن يعرف الى أى وجهة يتجه.
********