قصة أندلسية
منظمة الشعب الأندلسي العالمية World Organization of Andalusian People :: علوم الأندلسيين القدامى-ANCIENT ANDALUSIANS’ SCIENCES - CIENCIA ANDALUZA – SCIENCES DES ANCIENS ANDALOUS :: الأدب شعر ونثرا
صفحة 1 من اصل 1
قصة أندلسية
قصة واقية من الندلس ذكرها الشيخ علي الطنطاوي في كتابه قصص من التاريخ:
كنت يومئذ صغيرا لا أفقه شيئا مما يجري في الخفاء ولكني اجد أبي -رحمه الله- يضطرب نويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من"الكتاب المقدس"وأخبرته بما تعلمته من اللغة الإسبانية،ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها.
فلبث فيها ساعات طويلة لا أدري ما يصنع فيها،ثم يخرج منها محمر العينين،كأنه بكى بكاءاطويلا،ويبقى أياما ينظر بلهفة وحزن،ويحرك
شفتيه،فعل من يهم بالكلام،فإذا وقفت مصغيا إليه ولاَّني ظهره وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً.
وكنت أجد أمي تشيعني كلما ذهبت إلى المدرسة حزينة دامعة العين،
وتقبلني بشوق وحرقة،ثم لا تشبع مني ،فتدعوني فتقبلني مرة ثانية
ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي
فأعجب من بكائها ولا اعرف السبب وإذا عدت استقبلتني بلهفة واشتياق،كأني كنت غائبا عنها عشرة أعوام.
وكنت أرى والديّ يبتعدان عني،ويتكلمان همسا بلغة غير اللغة الإسبانية،لا أعرفها ولا افهمها،فإذا دنوت منهما قطعا الحديث،وحوَّلاه،وأخذا يتكلمان بالإسبانية
فأعجب وأتألم،وأذهب اظن في نفسي الظنون،
حتى أني لأحسب أني لست ابنهما،وأني لقيط جاءا به من الطريق،
فيبرح لي الألم فآوى إلى ركن في الدار منعزلا فأبكي بكاءا مرًّا.
وتوالت علي الأيام فأورثنتي مزاجا خاصا يختلف عن أمزجة الأطفال الذين كانوا في سنِّي،فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم
بل أعتزلهم و أذهب فأجلس وحيدا،أضع رأسي بين كفيَّ وأستغرق في تفكيري ،أحاول أن أجد حلا لهذه المشكلات،
حتى يجذبني الخوري من كم قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة.
وولدت أمي مرة ،فلما بشَّرت أبي بأنها قد انجبت صبيا جميلا،لم يبتهج،ولم تلح على شفتيه ابتسامة ولكنه قام يجر رجليه حزينا ملتاعا
فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمد الطفلنوأقبل يمشي وراءه وهو مطرق برأسه إلى الأرض،وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل
حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي فرأيت وجهها يشحب شحوبا هائلا،وعينيها تشخصان،ورايتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة ،ثم تغمض عينيها،
فحرت في تعليل هذه المظاهر فزدت ألما على ألمي .
يتبع......
كنت يومئذ صغيرا لا أفقه شيئا مما يجري في الخفاء ولكني اجد أبي -رحمه الله- يضطرب نويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من"الكتاب المقدس"وأخبرته بما تعلمته من اللغة الإسبانية،ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها.
فلبث فيها ساعات طويلة لا أدري ما يصنع فيها،ثم يخرج منها محمر العينين،كأنه بكى بكاءاطويلا،ويبقى أياما ينظر بلهفة وحزن،ويحرك
شفتيه،فعل من يهم بالكلام،فإذا وقفت مصغيا إليه ولاَّني ظهره وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً.
وكنت أجد أمي تشيعني كلما ذهبت إلى المدرسة حزينة دامعة العين،
وتقبلني بشوق وحرقة،ثم لا تشبع مني ،فتدعوني فتقبلني مرة ثانية
ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي
فأعجب من بكائها ولا اعرف السبب وإذا عدت استقبلتني بلهفة واشتياق،كأني كنت غائبا عنها عشرة أعوام.
وكنت أرى والديّ يبتعدان عني،ويتكلمان همسا بلغة غير اللغة الإسبانية،لا أعرفها ولا افهمها،فإذا دنوت منهما قطعا الحديث،وحوَّلاه،وأخذا يتكلمان بالإسبانية
فأعجب وأتألم،وأذهب اظن في نفسي الظنون،
حتى أني لأحسب أني لست ابنهما،وأني لقيط جاءا به من الطريق،
فيبرح لي الألم فآوى إلى ركن في الدار منعزلا فأبكي بكاءا مرًّا.
وتوالت علي الأيام فأورثنتي مزاجا خاصا يختلف عن أمزجة الأطفال الذين كانوا في سنِّي،فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم
بل أعتزلهم و أذهب فأجلس وحيدا،أضع رأسي بين كفيَّ وأستغرق في تفكيري ،أحاول أن أجد حلا لهذه المشكلات،
حتى يجذبني الخوري من كم قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة.
وولدت أمي مرة ،فلما بشَّرت أبي بأنها قد انجبت صبيا جميلا،لم يبتهج،ولم تلح على شفتيه ابتسامة ولكنه قام يجر رجليه حزينا ملتاعا
فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمد الطفلنوأقبل يمشي وراءه وهو مطرق برأسه إلى الأرض،وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل
حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي فرأيت وجهها يشحب شحوبا هائلا،وعينيها تشخصان،ورايتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة ،ثم تغمض عينيها،
فحرت في تعليل هذه المظاهر فزدت ألما على ألمي .
يتبع......
عبد العزيز الغزروي- مفكر وقائد في القضية الأندلسية المعاصرة
- الجنس :
تاريخ التسجيل : 12/05/2011
عدد المساهمات : 42
نقاط الشكر على الجدية الأندلسية : 17
نشاطه في منظمة ش الأندلسي ع : 76
رد: قصة أندلسية
حتى إذا كانت ليلة عيد الفصح،وكانت غرناطة غارقة في العصر والنور والحمراء تتلألأ بالمشاعل و الأضواء ،والصلبان تومض على شرفاتها ومئاذنها،
دعاني أبي في جوف الليل وأهل الدار كلهم نيام،فقادني صامتا إلى غرفته،على حرمه المقدس،فخفق قلبي خفوقا شديدا واضطربت ،لكني تماسكت وتجلدت،فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج،وبقيت واقفا في الظلام لحظات كانت أطول علي من أعوام،ثم أشعل سراجا كان هناك.فتلفتُّ ُحولي فرأيت الغرفة خالية،ليس فيها شيء مما ،كنت أتوقعه من الغرائب،و ما فيها إلا بساط، وكتاب موضوع على رف ،وسيف معلق بالجدار،فأجلسني على ذلك البساط
ولبث ينظر إلي نظرات غريبة اجتمعت علي هي و رهبة المكان و سكون الليل فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب ،وانتقلت إلى دنيا أخرى لا أستطيع وصف ما أحسست به منها....ثم أخذ أبي يدي بيديه بحنو وعطف.
وقال لي بصوت خافت:يا بني إنك في العاشرة من عمرك و قد صرت رجلاً،و إني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك،فهل تستطيع أن تحفظ به في صدرك ،وتحبسه عن أمك وأهلك و الناس أجمعين؟،،إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال ديوان التفتيش ،،،،فلما سمعت اسم"ديوان التفتيش"،ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي،وقد كنت صغيرا حقا،ولكني أعرف ما هو"ديوان التفتيش"،وأرى ضحاياه كل يوم،وأنا غاد إلى المدرسة و رائح منها،فمن رجال يحرقون و يصلبون،ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتننأو تبقر بطونهن.فسكت ولم أجب.
فقال لي أبي:مالك لا تجيب!أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك.
قلت:نعم.
قال:اقترب مني،ارهف سمعك جيدا،فإني لا أقدر أن أرفع صوتي،أخشى أن تكون للحيطان ءاذان،فتشي بي إلى "ديوان التفتيش"،فيحرقني حيًّا.
فاقتربت منه وقلت له :إني مصغ يا أبت.
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف فقال:أتعرف هذا الكتاب يا بني؟.
قلت:لا.
قال:هذا كتاب الله.
قلت:الكتاب المقدس الذي جاء به اليسوع ابن الله.
فاضطرب وقال:كلا،هذا هو القرءان الذي أنزله الواحد الأحد،الفرد الصمد،الذي لم يلد و لم يولد،ولم يكن له كفوا أحد،على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه،سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي صلى الله عليه وسلم.
ففتحت عيني من الدهشة،ولم أكد افهم شيئا.
قال:هذا كتاب الإسلام،الإسلام الذي بعث الله به محمددا إلى الناس كافة،فظهر هناك...وراء البحار والبوادي في الصحراء البعيدة القاحلة...في ،مكة،في قوم بداة،مختلفين،مشركين،جاهلين،فهداهم به إلى التوحيد،وأعطاههم به الإتحاد والقوة والعلم والحضارة،فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة،إلى اسبانيا،فعدلوا بين الناس وأحسننوا إليهم،وأمَّنوهم على أرواحهم وأموالهم ولبثوا فيها ثمانمائة سنة،جعلوها أرقى وأجمل بلاد الدنيا،،،،نعم يا بني نحن العرب المسلمين..فلم أملك نفسي من الدهشة و العجب والخوف فصحت به:ماذا؟نحن؟العرب المسلمين.:
قال:نعم يا بني ههذا هو السر الذي سأفضي به إليك.
نعم نحن.نحن أصحاب هذه البلاد ننحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا،نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن،فصارت يقرع فيها الناقوس،نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفا بين يدي الله وأمامهم الأئمة،يتلون في المحاريب كلام الله،فصرت كنائس يقوم فيها القسوس والرهبان،يرتلون فيها كتابهم،،،نعم يا بني..نحن العرب المسلمين،لنا في كل بقعة من بقاع اسبانيا أثر،وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا،أو شهيد من شهدائنا..نعم..نحن بنينا هذه المدن،نحن أنشأنا هذه الجسور،نحن مهدنا هذه الطرق،نحن شققنا هذه الترع،نحن غرسنا هذه الأشجار،ولكن منذ أربعين سنة،أسامع أنت منذ أربعين سنة خدع الملك البائس ابو عبد الله الصغير،ءاخر ملوكنا في هذه الديار،بوعود الإسبان وعهودهم فسلمهم مفاتيح غرناطة،وأباحهم حمى أمته،ومدافن أجداده،وأخذ طريقه إلى بر المغرب ليموت هناك وحيدا فريدا،شريدا طريدا،وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل و الإستقلال.
فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها فأنشأوا"ديوان التفتيش"،فأدخلنا في النصرانية قسرا،وأجبرنا على ترك لغتنا إجبارا،وأخخذوا منا أولادنا لينشئوهم على النصرانية،فذلك سر ما ترى من استخفائنا بالعبادة،وحزننا على امتهان ديننا وتكفير أولادنا....
أربعون سنة يا بني ونحن صابرون على هذا العذاب ،الذي لا تحمله جلاميد الصخر،ننتظر الفرج من الله ،لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا،دين القوة والصبر والجهاد.
هذا هو السر يا بني فاكتمه ،واعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك و لست والله أخشى الموت أو أكره لقاء الله،ولكني أحب أن أبقى حيا حتى أعلمك لغتك ودينك وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الإيمان. فقم الآن إلى فراشك يا بني.
صرت من بعد، كلما رايت شرفات الحمرااء ومآذن غرناطة،تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق و الحزن والبغض والحب يغمر فؤادي،وكثيرا ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة فإذا تنبهت أطوف بالحمراء وأخاطبها وأعاتبها،وأقول لها:يا أيتها الحمراء...أيتها الحبيبة الهاجرة،أنسيت بُناتكك وأصحابك الذين غذوك بأرواحهم ومهجهم،وسقوك بدمائهم ودموعهم،فتجاهلتعهدهم،وأنكرت ودهم؟!أنسيت ملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك،ويتكئون على أساطينك،ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والبهة والجمال ،أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا،وإن أمروا لبى الدهر...ألفت النواقيس بعد الأذان؟أرضيت بعد الأئمة بالرهبان،،ثم اخاف أن يسمعني أحد جواسيس الديوان فأسرع الكرة إلى الدرة لأحفظ درس العربية،الذي كان يلقيه علي أبي،وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي فيكتب لي حذاءه الحرف العربي فيقول لي هذه حروفنا.
و يعلمني النطق بها ورسمها،ثم يلقي علي درس الدين ،ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة،وكان الخوف من أ، أزِلَّ فأفشي السر لا يفارقه أبدا، و كان يمتحنني فيدس أمي إلي فتسألني:ماذا يعلمك أبوك؟فأقول لا شيء. فتقول:إن عندك نبأ مما يعلمك فلا تكتمه عني. فاقول:إنه لا يعلمني شيئا.
حتى أتقنت العربية وفهمت القرءاان و عرفت قواعد الدين،فعرَّفني بأخ له في الله،نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا و قراءتنا.
واشتدت بعد ذلك قسوة "ديوان التفتيش،زاد في تنكيله بالبقية البااقية من المسلمين،فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوبا أو محرقا حيا،ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون اشد العذاب و أفظعه، فتقلع أظافرهم و هم يرون ذلك بأعينهم،و يسقون الماء حتى تتقطع أنفاسهم، وتكوى ارجلهم و جنوبهم بالنار،وتقطع اصابعهم وتشوى و توضع في أفواههم،ويجلدون حتى تتناثر لحومهم...واستمر ذلك مدة طويلة،فقال لي أبي ذات يوم ، إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا وإني لأهوى الشهادة على ايدي هؤلاء،لعل الله يرزقني الجنة،فأفوز فوزا عظيما،ولم يبق لي مأرب في هذه الدنيا بعد أن أخرجك الله من ظلمة الكفر و حملتك الأمانة الكبرى ،التي كدت أهوى تحت أثقالها،فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء.ومرّت الأيام،وكانت ليلة من ليالي السِّرار،وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه،فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب بلد المسلمين فأقول له :أبي وأمي؟!...فيعنف علي و يشدني من يدي و يقول لي:ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟،فأمضي معه صاغرا كارها،حتى إذا ابتعدنا عن المدينة شملنا الظلام، قال لي:اصبر يا بني فقد كتب الله لوالديك المؤمنيْن السعادة على أيدي "ديوان التفتيش"،
ويخلص الغلام إلى بر المغرب و يكون منه العالم المصنف محمد بن عبد الرفيع الأندلسي و ينفع الله به و بمصنفاته.
دعاني أبي في جوف الليل وأهل الدار كلهم نيام،فقادني صامتا إلى غرفته،على حرمه المقدس،فخفق قلبي خفوقا شديدا واضطربت ،لكني تماسكت وتجلدت،فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج،وبقيت واقفا في الظلام لحظات كانت أطول علي من أعوام،ثم أشعل سراجا كان هناك.فتلفتُّ ُحولي فرأيت الغرفة خالية،ليس فيها شيء مما ،كنت أتوقعه من الغرائب،و ما فيها إلا بساط، وكتاب موضوع على رف ،وسيف معلق بالجدار،فأجلسني على ذلك البساط
ولبث ينظر إلي نظرات غريبة اجتمعت علي هي و رهبة المكان و سكون الليل فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب ،وانتقلت إلى دنيا أخرى لا أستطيع وصف ما أحسست به منها....ثم أخذ أبي يدي بيديه بحنو وعطف.
وقال لي بصوت خافت:يا بني إنك في العاشرة من عمرك و قد صرت رجلاً،و إني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك،فهل تستطيع أن تحفظ به في صدرك ،وتحبسه عن أمك وأهلك و الناس أجمعين؟،،إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال ديوان التفتيش ،،،،فلما سمعت اسم"ديوان التفتيش"،ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي،وقد كنت صغيرا حقا،ولكني أعرف ما هو"ديوان التفتيش"،وأرى ضحاياه كل يوم،وأنا غاد إلى المدرسة و رائح منها،فمن رجال يحرقون و يصلبون،ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتننأو تبقر بطونهن.فسكت ولم أجب.
فقال لي أبي:مالك لا تجيب!أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك.
قلت:نعم.
قال:اقترب مني،ارهف سمعك جيدا،فإني لا أقدر أن أرفع صوتي،أخشى أن تكون للحيطان ءاذان،فتشي بي إلى "ديوان التفتيش"،فيحرقني حيًّا.
فاقتربت منه وقلت له :إني مصغ يا أبت.
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف فقال:أتعرف هذا الكتاب يا بني؟.
قلت:لا.
قال:هذا كتاب الله.
قلت:الكتاب المقدس الذي جاء به اليسوع ابن الله.
فاضطرب وقال:كلا،هذا هو القرءان الذي أنزله الواحد الأحد،الفرد الصمد،الذي لم يلد و لم يولد،ولم يكن له كفوا أحد،على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه،سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي صلى الله عليه وسلم.
ففتحت عيني من الدهشة،ولم أكد افهم شيئا.
قال:هذا كتاب الإسلام،الإسلام الذي بعث الله به محمددا إلى الناس كافة،فظهر هناك...وراء البحار والبوادي في الصحراء البعيدة القاحلة...في ،مكة،في قوم بداة،مختلفين،مشركين،جاهلين،فهداهم به إلى التوحيد،وأعطاههم به الإتحاد والقوة والعلم والحضارة،فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة،إلى اسبانيا،فعدلوا بين الناس وأحسننوا إليهم،وأمَّنوهم على أرواحهم وأموالهم ولبثوا فيها ثمانمائة سنة،جعلوها أرقى وأجمل بلاد الدنيا،،،،نعم يا بني نحن العرب المسلمين..فلم أملك نفسي من الدهشة و العجب والخوف فصحت به:ماذا؟نحن؟العرب المسلمين.:
قال:نعم يا بني ههذا هو السر الذي سأفضي به إليك.
نعم نحن.نحن أصحاب هذه البلاد ننحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا،نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن،فصارت يقرع فيها الناقوس،نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفا بين يدي الله وأمامهم الأئمة،يتلون في المحاريب كلام الله،فصرت كنائس يقوم فيها القسوس والرهبان،يرتلون فيها كتابهم،،،نعم يا بني..نحن العرب المسلمين،لنا في كل بقعة من بقاع اسبانيا أثر،وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا،أو شهيد من شهدائنا..نعم..نحن بنينا هذه المدن،نحن أنشأنا هذه الجسور،نحن مهدنا هذه الطرق،نحن شققنا هذه الترع،نحن غرسنا هذه الأشجار،ولكن منذ أربعين سنة،أسامع أنت منذ أربعين سنة خدع الملك البائس ابو عبد الله الصغير،ءاخر ملوكنا في هذه الديار،بوعود الإسبان وعهودهم فسلمهم مفاتيح غرناطة،وأباحهم حمى أمته،ومدافن أجداده،وأخذ طريقه إلى بر المغرب ليموت هناك وحيدا فريدا،شريدا طريدا،وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل و الإستقلال.
فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها فأنشأوا"ديوان التفتيش"،فأدخلنا في النصرانية قسرا،وأجبرنا على ترك لغتنا إجبارا،وأخخذوا منا أولادنا لينشئوهم على النصرانية،فذلك سر ما ترى من استخفائنا بالعبادة،وحزننا على امتهان ديننا وتكفير أولادنا....
أربعون سنة يا بني ونحن صابرون على هذا العذاب ،الذي لا تحمله جلاميد الصخر،ننتظر الفرج من الله ،لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا،دين القوة والصبر والجهاد.
هذا هو السر يا بني فاكتمه ،واعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك و لست والله أخشى الموت أو أكره لقاء الله،ولكني أحب أن أبقى حيا حتى أعلمك لغتك ودينك وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الإيمان. فقم الآن إلى فراشك يا بني.
صرت من بعد، كلما رايت شرفات الحمرااء ومآذن غرناطة،تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق و الحزن والبغض والحب يغمر فؤادي،وكثيرا ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة فإذا تنبهت أطوف بالحمراء وأخاطبها وأعاتبها،وأقول لها:يا أيتها الحمراء...أيتها الحبيبة الهاجرة،أنسيت بُناتكك وأصحابك الذين غذوك بأرواحهم ومهجهم،وسقوك بدمائهم ودموعهم،فتجاهلتعهدهم،وأنكرت ودهم؟!أنسيت ملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك،ويتكئون على أساطينك،ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والبهة والجمال ،أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا،وإن أمروا لبى الدهر...ألفت النواقيس بعد الأذان؟أرضيت بعد الأئمة بالرهبان،،ثم اخاف أن يسمعني أحد جواسيس الديوان فأسرع الكرة إلى الدرة لأحفظ درس العربية،الذي كان يلقيه علي أبي،وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي فيكتب لي حذاءه الحرف العربي فيقول لي هذه حروفنا.
و يعلمني النطق بها ورسمها،ثم يلقي علي درس الدين ،ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة،وكان الخوف من أ، أزِلَّ فأفشي السر لا يفارقه أبدا، و كان يمتحنني فيدس أمي إلي فتسألني:ماذا يعلمك أبوك؟فأقول لا شيء. فتقول:إن عندك نبأ مما يعلمك فلا تكتمه عني. فاقول:إنه لا يعلمني شيئا.
حتى أتقنت العربية وفهمت القرءاان و عرفت قواعد الدين،فعرَّفني بأخ له في الله،نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا و قراءتنا.
واشتدت بعد ذلك قسوة "ديوان التفتيش،زاد في تنكيله بالبقية البااقية من المسلمين،فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوبا أو محرقا حيا،ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون اشد العذاب و أفظعه، فتقلع أظافرهم و هم يرون ذلك بأعينهم،و يسقون الماء حتى تتقطع أنفاسهم، وتكوى ارجلهم و جنوبهم بالنار،وتقطع اصابعهم وتشوى و توضع في أفواههم،ويجلدون حتى تتناثر لحومهم...واستمر ذلك مدة طويلة،فقال لي أبي ذات يوم ، إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا وإني لأهوى الشهادة على ايدي هؤلاء،لعل الله يرزقني الجنة،فأفوز فوزا عظيما،ولم يبق لي مأرب في هذه الدنيا بعد أن أخرجك الله من ظلمة الكفر و حملتك الأمانة الكبرى ،التي كدت أهوى تحت أثقالها،فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء.ومرّت الأيام،وكانت ليلة من ليالي السِّرار،وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه،فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب بلد المسلمين فأقول له :أبي وأمي؟!...فيعنف علي و يشدني من يدي و يقول لي:ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟،فأمضي معه صاغرا كارها،حتى إذا ابتعدنا عن المدينة شملنا الظلام، قال لي:اصبر يا بني فقد كتب الله لوالديك المؤمنيْن السعادة على أيدي "ديوان التفتيش"،
ويخلص الغلام إلى بر المغرب و يكون منه العالم المصنف محمد بن عبد الرفيع الأندلسي و ينفع الله به و بمصنفاته.
عبد العزيز الغزروي- مفكر وقائد في القضية الأندلسية المعاصرة
- الجنس :
تاريخ التسجيل : 12/05/2011
عدد المساهمات : 42
نقاط الشكر على الجدية الأندلسية : 17
نشاطه في منظمة ش الأندلسي ع : 76
منظمة الشعب الأندلسي العالمية World Organization of Andalusian People :: علوم الأندلسيين القدامى-ANCIENT ANDALUSIANS’ SCIENCES - CIENCIA ANDALUZA – SCIENCES DES ANCIENS ANDALOUS :: الأدب شعر ونثرا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء 15 أكتوبر 2024, 12:57 من طرف محمدي بن يحي
» حمل المئات من كتب النحو والصرف والإعراب (أمهات الكتب)
الثلاثاء 15 أكتوبر 2024, 12:55 من طرف محمدي بن يحي
» ألقاب عائلات أندلسية في الجزائر
السبت 24 أغسطس 2024, 02:42 من طرف أ. د. جمال بن عمار الأحمر
» Ansys Electromagnetics Suite 2024 R1
الثلاثاء 27 فبراير 2024, 02:43 من طرف dlhtserv
» لقب: خلـــيفة، بالشرق الجزائري
الجمعة 06 أكتوبر 2023, 23:06 من طرف أ. د. جمال بن عمار الأحمر
» مسرحية (ولادة)، علي عبد العظيم (نالت الجائزة الأولى للتأليف المسرحي من وزارة الشؤون الاجتماعية، بمصر)، 1948م
السبت 05 أغسطس 2023, 17:22 من طرف أ. د. جمال بن عمار الأحمر
» WSDOT BridgeLink v7.0.1.0 English 64-bit
الجمعة 19 مايو 2023, 14:52 من طرف dlhtserv
» UniSoft GS UniSettle v4.0.0.58 English 32-64-bit
الجمعة 19 مايو 2023, 14:50 من طرف dlhtserv
» UniSoft GS UniPile v5.0.0.60 English 32-64-bit
الجمعة 19 مايو 2023, 14:48 من طرف dlhtserv